فصل: قصة سبأ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 فصل

وأخبار بني إسرائيل كثيرة جداً في الكتاب والسنة النبوية، ولو ذهبنا نتقصى ذلك لطال الكتاب، ولكن ذكرنا ما ذكره الإمام أبو عبد الله البخاري في هذا الكتاب، ففيه مقنع وكفاية، وهو تذكرة وأنموذج لهذا الباب، والله أعلم‏.‏

وأما الأخبار الإسرائيلية فيما يذكره كثير من المفسرين والمؤرخين فكثيرة جداً، ومنها ما هو صحيح موافق لما وقع، وكثير منها بل أكثرها مما يذكره القصاص مكذوب مفترى، وضعه زنادقتهم وضلالهم، وهي ثلاثة أقسام‏:‏

منها‏:‏ ما هو صحيح لموافقته ما قصه الله في كتابه أو أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومنها‏:‏ ما هو معلوم البطلان لمخالفته كتاب الله وسنة رسوله‏.‏

ومنها‏:‏ ما يحتمل الصدق والكذب، فهذا الذي أمرنا بالتوقف فيه، فلا نصدقه ولا نكذبه، كما ثبت في ‏(‏الصحيح‏)‏‏:‏

‏(‏‏(‏إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم‏)‏‏)‏‏.‏

وتجوز روايته مع هذا الحديث المتقدم‏:‏ ‏(‏‏(‏وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج‏)‏‏)‏‏.‏

 تحريف أهل الكتاب وتبديلهم أديانهم

أما اليهود فقد أنزل الله عليهم التوراة على يدي موسى بن عمران عليه السلام، وكانت كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 154‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 117-118‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 177‏)‏

فكانوا يحكمون بها وهم متمسكون بها برهة من الزمان، ثم شرعوا في تحريفها، وتبديلها، وتغييرها، وتأويلها، وإبداء ما ليس منها، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 78‏]‏‏.‏

فأخبر تعالى أنهم يفسرونها، ويتأولونها، ويضعونها على غير مواضعها، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء، وهو أنهم يتصرفون في معانيها، ويحملونها على غير المراد، كما بدلوا حكم الرجم بالجلد، والتحميم مع بقاء لفظ الرجم فيها، وكما أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، مع أنهم مأمورون بإقامة الحد، والقطع على الشريف والوضيع‏.‏

فأما تبديل ألفاظها فقال قائلون‏:‏ بأنها جميعها بدلت، وقال آخرون‏:‏ لم تبدل، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏‏.‏

وبقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 93‏]‏‏.‏

وبقصة الرجم، فإنهم كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر، وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب، وجابر بن عبد الله وفي السنن عن أبي هريرة وغيره، لما تحاكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة اليهودي واليهودية الذين زنيا فقال لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما تجدون في التوراة في شأن الرجم‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ نفضحهم ويجلدون فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحضار التوراة فلما جاؤوا بها، وجعلوا يقرؤنها ويكتمون آية الرجم التي فيها، ووضع عبد الله بن صور بأيده على آية الرجم، وقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ارفع يدك يا أعور‏)‏‏)‏‏.‏

فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه‏)‏‏)‏‏.‏

وعند أبي داود‏:‏ أنهم لما جاؤوا بها نزع الوسادة من تحته فوضعها تحتها، وقال‏:‏ آمنت بك وبمن أنزلك، وذكر بعضهم أنه قام لها ولم أقف على إسناده، والله أعلم‏.‏

وهذا كله يشكل على ما يقوله كثير من المتكلمين وغيرهم، أن التوراة انقطع تواترها في زمن بخت نصر، ولم يبق من يحفظها إلا العزير، ثم العزيز إن كان نبياً فهو معصوم، والتواتر إلى المعصوم يكفي، اللهم إلا أن يقال‏:‏ إنها لم تتواتر إليه، لكن بعده زكريا، ويحيى، وعيسى، وكلهم كانوا متمسكين بالتوراة، فلو لم تكن صحيحة معمولاً بها، لما اعتمدوا عليها وهم أنبياء معصومون‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 178‏)‏

ثم قد قال الله تعالى فيما أنزل على رسوله محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع الأنبياء، منكراً على اليهود في قصدهم الفاسد إذ عدلوا عما يعتقدون صحته عندهم، وأنهم مأمورون به حتماً إلى التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يعاندون ما جاء به لكن لما كان في زعمهم ما قد يوافقهم على ما ابتدعوه من الجلد والتحميم المصادم لما أمر الله به حتما وقالوا‏:‏ إن حكم لكم بالجلد والتحميم فاقبلوه، وتكونون قد اعتذرتم بحكم نبي لكم عند الله يوم القيامة، وإن لم يحكم لكم بهذا بل بالرجم فاحذروا أن تقبلوا منه‏.‏

فأنكر الله تعالى عليهم في هذا القصد الفاسد الذي إنما حملهم عليه الغرض الفاسد، وموافقة الهوى، لا الدين الحق فقال‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 43-44‏]‏‏.‏

ولهذا حكم بالرجم قال‏:‏

‏(‏‏(‏اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه‏)‏‏)‏‏.‏

وسألهم ما حملهم على هذا ولم تركوا أمر الله الذي بأيديهم‏؟‏ فقالوا‏:‏ إن الزنا قد كثر في أشرافنا ولم يمكنا أن نقيمه عليهم، وكنا نرجم من زنى من ضعفائنا‏.‏

فقلنا تعالوا إلى أمر نصف نفعله مع الشريف والوضيع فاصطلحنا على الجلد والتحميم، فهذا من جملة تحريفهم وتبديلهم وتغييرهم وتأويلهم الباطل، وهذا إنما فعلوه في المعاني مع بقاء لفظ الرجم في كتابهم، كما دل عليه الحديث المتفق عليه‏.‏

فلهذا قال من قال‏:‏ هذا من الناس إنه لم يقع تبديلهم إلا في المعاني، وإن الألفاظ باقية وهي حجة عليهم، إذ لو أقاموا ما في كتابهم جميعه لقادهم ذلك إلى اتباع الحق ومتابعة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 66‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 68‏]‏‏.‏

وهذا المذهب وهو القول بأن التبديل إنما وقع في معانيها لا في ألفاظها، حكاه البخاري عن ابن عباس في آخر كتابه الصحيح، وقرر عليه ولم يرده‏.‏ وحكاه العلامة فخر الدين الرازي في تفسيره عن أكثر المتكلمين‏.‏

 ليس للجنب لمس التوراة

وذهب فقهاء الحنفية إلى أنه لا يجوز للجنب مس التوراة وهو محدث، وحكاه الحناطي في فتاويه عن بعض أصحاب الشافعي وهو غريب جداً، وذهب آخرون من العلماء إلى التوسط في هذين القولين منهم‏:‏ شيخنا الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه الله فقال‏:‏ أما من ذهب إلى أنها كلها مبدلة من أولها إلى آخرها ولم يبق منها حرف إلا بدلوه فهذا بعيد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 179‏)‏

وكذا من قال لم يبدل شيء منها بالكلية بعيد أيضاً، والحق أنه دخلها تبديل وتغيير، وتصرفوا في بعض ألفاظها بالزيادة والنقص كما تصرفوا في معانيها، وهذا معلوم عند التأمل ولبسطه موضع آخر، والله أعلم‏.‏

كما في قوله في قصة الذبيح‏:‏ اذبح ابنك وحيدك، وفي نسخة‏:‏ بكرك إسحاق، فلفظة إسحاق مقحمة مزيدة بلا مرية، لأن الوحيد وهو البكر إسماعيل لأنه ولد قبل إسحاق بأربع عشر سنة، فكيف يكون الوحيد البكر إسحاق‏؟‏ وإنما حملهم على ذلك حسد العرب أن يكون إسماعيل غير الذبيح، فأرادوا أن يذهبوا بهذه الفضيلة لهم فزادوا ذلك في كتاب الله افتراء على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد اغتر بهذه الزيادة خلق كثير من السلف والخلف، ووافقوهم على أن الذبيح إسحاق، والصحيح الذبيح إسماعيل كما قدمنا، والله أعلم‏.‏

وهكذا في توراة السامرة في العشر الكلمات زيادة الأمر بالتوجه إلى الطور في الصلاة، وليس ذلك في سائر نسخ اليهود والنصارى‏.‏

وهكذا يوجد في الزبور المأثور عن داود عليه السلام مختلفاً كثيراً وفيه أشياء مزيدة ملحقة فيه وليست منه، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ وأما ما بأيديهم من التوراة المعربة فلا يشك عاقل في تبديلها وتحريف كثير من ألفاظها، وتغيير القصص والألفاظ، والزيادات والنقص البين الواضح، وفيها من الكذب البين والخطأ الفاحش شيء كثير جداً، فأما ما يتلونه بلسانهم ويكتبونه بأقلامهم فلا اطلاع لنا عليه، والمظنون بهم أنهم كذبة خونة يكثرون الفرية على الله ورسله وكتبه‏.‏

وأما النصارى فأناجيلهم الأربعة من طريق مرقس، ولوقا، ومتى، ويوحنا أشد اختلافاً وأكثر زيادة ونقصاً، وأفحش تفاوتاً من التوراة، وقد خالفوا أحكام التوراة والإنجيل في غير ما شيء قد شرعوه لأنفسهم، فمن ذلك صلاتهم إلى الشرق وليست منصوصا عليها ولا مأمورا بها في شيء من الأناجيل الأربعة‏.‏

وهكذا تصويرهم كنائسهم وتركهم الختان، ونقلهم صيامهم إلى زمن الربيع، وزيادته إلى خمسين يوماً، وأكلهم الخنزير، ووضعهم الأمانة الكبيرة، وإنما هي الخيانة الحقيرة، والرهبانية‏:‏ وهي ترك التزويج لمن أراد التعبد وتحريمه عليه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 180‏)‏

وكتبهم القوانين التي وضعتها لهم الأساقفة الثلاثمائة والثمانية عشر، فكل هذه الأشياء ابتدعوها ووضعوها في أيام قسطنطين بن قسطن باني القسطنطينية، وكان زمنه بعد المسيح بثلاثمائة سنة، وكان أبوه أحد ملوك الروم وتزوج أمه هيلانة في بعض أسفاره للصيد من بلاد حران، وكانت نصرانية على دين الرهابين المتقدمين‏.‏

فلما ولد لها منه قسطنطين المذكور، تعلم الفلسفة وبهر فيها وصار فيه ميل بعض الشيء إلى النصرانية التي أمه عليها، فعظم القائمين بها بعض الشيء وهو على اعتقاد الفلاسفة‏.‏

فلما مات أبوه واستقل هو في المملكة، سار في رعيته سيرة عادلة فأحبه الناس، وساد فيهم وغلب على ملك الشام بأسره مع الجزيرة وعظم شأنه، وكان أول القياصرة، ثم اتفق اختلاف في زمانه بين النصارى ومنازعة بين بترك الإسكندرية اكصندروس، وبين رجل من علمائهم يقال له‏:‏ عبد الله بن أريوس‏.‏

فذهب اكصندروس إلى أن‏:‏ عيسى ابن الله تعالى الله عن قوله، وذهب ابن أريوس إلى أن‏:‏ عيسى عبد الله ورسوله، واتبعه على هذا طائفة من النصارى‏.‏

واتفق الأكثرون الأخسرون على قول بتركهم، ومنع ابن أريوس من دخول الكنيسة هو وأصحابه، فذهب يستعدي على اكصندروس وأصحابه إلى ملك قسطنطين، فسأله الملك عن مقالته فعرض عليه عبد الله بن أريوس ما يقول في المسيح من أنه عبد الله ورسوله، واحتج على ذلك فحال إليه وجنح إلى قوله، فقال له قائلون‏:‏ فينبغي أن تبعث إلى خصمه فتسمع كلامه، فأمر الملك بإحضاره وطلب من سائر الأقاليم كل أسقف وكل من عنده في دين النصرانية‏.‏

وجمع البتاركة الأربعة من القدس، وإنطاكية، ورومية، والإسكندرية، فيقال‏:‏ إنهم اجتمعوا في مدة سنة وشهرين ما يزيد على ألفي أسقف، فجمعهم في مجلس واحد وهو المجمع الأول من مجامعهم الثلاثة المشهورة، وهم مختلفون اختلافاً متبايناً منتشراً جداً، فمنهم الشرذمة على المقالة التي لا يوافقهم أحد من الباقين عليها، فهؤلاء خمسون على مقالة، وهؤلاء ثمانون على مقالة أخرى، وهؤلاء عشرة على مقالة، وأربعون على أخرى، ومائة على مقالة، ومائتان على مقالة، وطائفة على مقالة ابن أريوس، وجماعة على مقالة أخرى‏.‏

فلما تفاقم أمرهم، وانتشر اختلافهم حار فيهم الملك قسطنطين مع أنه سيئ الظن بما عدا دين الصابئين من أسلافه اليونانيين، فعمد إلى أكثر جماعة منهم على مقالة من مقالاتهم، فوجدهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً، قد اجتمعوا على مقالة اكصندروس ولم يجد طائفة بلغت عدتهم‏.‏

فقال هؤلاء‏:‏ أولى بنصر قولهم لأنهم أكثر الفرق، فاجتمع بهم خصوصاً، ووضع سيفه وخاتمه إليهم وقال‏:‏ إني رأيتكم أكثر الفرق قد اجتمعتم على مقالتكم هذه، فأنا أنصرها وأذهب إليها‏.‏‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 181‏)‏

فسجدوا له وطلب منهم أن يضعوا له كتاباً في الأحكام، وأن تكون الصلاة إلى الشرق لأنها مطلع الكواكب النيرة، وأن يصوروا في كنائسهم صوراً لها جثث، فصالحوه على أن تكون في الحيطان‏.‏

فلما توافقوا على ذلك أخذ في نصرهم وإظهار كلمتهم، وإقامة مقالتهم، وإبعاد من خالفهم وتضعيف رأيه وقوله، فظهر أصحابه بجاهه على مخالفيهم، وانتصروا عليهم، وأمر ببناء الكنائس على دينهم وهم الملكية نسبة إلى دين الملك‏.‏

فبني في أيام قسطنطين بالشام وغيرها في المدائن والقرى أزيد من اثنتي عشر ألف كنيسة، واعتنى الملك ببناء بيت لحم يعني على مكان مولد المسيح، وبنت أمه هيلانة قمامة بيت المقدس على مكان المصلوب الذي زعمت اليهود والنصارى بجهلهم وقلة علمهم أنه المسيح عليه الصلاة والسلام‏.‏

ويقال‏:‏ إنه قتل من أعداء أولئك، وخد لهم الأخاديد في الأرض، وأجج فيها النار وأحرقهم بها كما ذكرناه في سورة البروج، وعظم دين النصرانية، وظهر أمره جداً بسبب الملك قسطنطين، وقد أفسده عليهم فساداً لا إصلاح له ولا نجاح معه ولا فلاح عنده‏.‏

وكثرت أعيادهم بسبب عظمائهم، وكثرت كنائسهم على أسماء عبادهم، وتفاقم كفرهم، وغلظت مصيبتهم، وتخلد ضلالهم، وعظم وبالهم، ولم يهد الله قلوبهم ولا أصلح بالهم، بل صرف قلوبهم عن الحق، وأمال عن الاستقامة، ثم اجتمعوا بعد ذلك مجمعين في قضية النسطورية واليعقوبية‏.‏

وكل فرقة من هؤلاء تكفر الأخرى، وتعتقد تخليدهم في نار جهنم، ولا يرى مجامعتهم في المعابد والكنائس، وكلهم يقول بالأقانيم الثلاثة‏:‏ أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم الكلمة، ولكن بينهم اختلاف في الحلول والاتحاد فيما بين اللاهوت والناسوت، هل تدرعه أو حل فيه، أو اتحد به‏؟‏

واختلافهم في ذلك شديد، وكفرهم بسببه غليظ، وكلهم على الباطل إلا من قال من الأريوسية أصحاب عبد الله بن أريوس‏:‏ إن المسيح عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته، ألقاها إلى مريم وروح منه كما يقول المسلمون فيه سواء‏.‏

ولكن لما استقر أمر الأريوسية على هذه المقالة، تسلط عليهم الفرق الثلاثة بالإبعاد والطرد حتى قلوا، فلا يعرف اليوم منهم أحد فيما يعلم، والله أعلم‏.‏

 كتاب الجامع الأخبار الأنبياء المتقدمين

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏‏.‏ ‏(‏ج /ص‏:‏ 2/ 182‏)‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 153-155‏]‏‏.‏

وقد روى ابن حبان في صحيحه، وابن مردويه في تفسيره وغيرهما، من طريق إبراهيم بن هشام، عن يحيى بن محمد الغساني الشامي، وقد تكلموا فيه، حدثني أبي، عن جدي، عن أبي إدريس، عن أبي ذر قال‏:‏ قلت يا رسول الله كم الأنبياء‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ يا رسول الله، كم الرسل منهم‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ثلاثمائة وثلاثة عشر، جم غفير‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ يا رسول الله من كان أولهم‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏آدم‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ يا رسول الله نبي مرسل‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم سواه قبلاً ثم قال‏:‏ يا أبا ذر أربعة سريانيون‏:‏ آدم، وشيث، ونوح، وخنوخ، وهو إدريس، وهو أول من خط بالقلم‏.‏ وأربعة من العرب‏:‏ هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر‏.‏ وأول نبي من بني إسرائيل‏:‏ موسى، وآخرهم‏:‏ عيسى، وأول النبيين‏:‏ آدم، وآخرهم نبيك‏)‏‏)‏‏.‏

وقد أورد هذا الحديث أبو الفرج ابن الجوزي في الموضوعات‏.‏

وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال‏:‏ حدثنا محمد بن عوف، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معان بن رفاعة، عن علي بن زيد، عن القاسم، عن أبي أمامة قال‏:‏

قلت يا رسول الله كم الأنبياء‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ومائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا أيضاً من هذا الوجه ضعيف، فيه ثلاثة من الضعفاء‏:‏ معان وشيخه، وشيخ شيخه‏.‏

وقد قال الحافظ أبو يعلى الموصلي‏:‏ حدثنا أحمد بن إسحاق أبو عبد الله الجوهري البصري، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا موسى بن عبيدة اليزيدي، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏بعث الله ثمانية آلاف نبي، أربعة آلاف إلى بني إسرائيل، وأربعة آلاف إلى سائر الناس‏)‏‏)‏‏.‏

موسى وشيخه ضعيفان أيضاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 183‏)‏

وقال أبو يعلى أيضاً‏:‏ حدثنا أبو الربيع، حدثنا محمد بن ثابت العبدي، حدثنا معبد بن خالد الأنصاري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي، ثم كان عيسى، ثم كنت أنا‏)‏‏)‏‏.‏

يزيد الرقاشي ضعيف‏.‏

وقد رواه الحافظ أبو بكر الإسماعيلي، عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة‏:‏ حدثنا أحمد بن طارق، حدثنا مسلم بن خالد، حدثنا زياد بن سعد، عن محمد بن المنكدر، عن صفوان بن سليم، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏بعثت على أثر ثمانية آلاف نبي، منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا إسناد لا بأس به، لكني لا أعرف حال أحمد بن طارق هذا والله أعلم‏.‏

 حديث آخر

قال عبد الله بن الإمام أحمد‏:‏ وجدت في كتاب أبي بخطه‏:‏ حدثني عبد المتعالي ابن عبد الوهاب، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، حدثنا مجالد عن أبي الوداك قال‏:‏ قال أبو سعيد‏:‏ هل تقر الخوارج بالدجال‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ لا‏.‏

فقال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إني خاتم ألف نبي أو أكثر، وما بعث الله نبياً يتبع إلا وحذر أمته منه، وإني قد بين لي فيه ما لم يبين لأحد منهم، وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا تخفى كأنها نخامة في حائط مجصص، وعينه اليسرى كأنها كوكب دري، معه من كل لسان، ومعه صورة الجنة خضراء يجري فيها الماء، وصورة النار سوداء تدخن‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا حديث غريب‏.‏

وقد روي عن جابر بن عبد الله فقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا مجالد، عن الشعبي، عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إني لخاتم ألف نبي أو أكثر، وإنه ليس منهم بني إلا وقد أنذر قومه الدجال، وأنه قد تبين لي فيه ما لم يتبين لأحد منهم وإنه أعور وإن ربكم ليس بأعور‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا إسناد حسن، وهو محمول على ذكر عدد من أنذر قومه الدجال من الأنبياء، لكن في الحديث الآخر‏:‏

‏(‏‏(‏ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الدجال‏)‏‏)‏‏.‏

فالله أعلم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن فرات يعني القزاز قال‏:‏ سمعت أبا حازم يحدث قال‏:‏ قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/184‏)‏

‏(‏‏(‏كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ فما تأمرنا يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم‏)‏‏)‏‏.‏

وكذا رواه مسلم عن بندار ومن وجه آخر عن فرات به نحوه‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عمرو بن حفص، حدثنا أبي حدثني الأعمش، حدثني شقيق قال‏:‏ قال عبد الله - هو ابن مسعود - كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول‏:‏

‏(‏‏(‏اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏)‏‏)‏‏.‏

رواه مسلم من حديث الأعمش به نحوه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن زيد بن أسلم، عن رجل، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ وضع رجل يده اليمنى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر، إن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالقمل حتى يقتله، وإن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالفقر حتى يأخذ العباء فيجوبها، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا رواه الإمام أحمد من طريق زيد بن أسلم، عن رجل، عن أبي سعيد‏.‏ وقد رواه ابن ماجه عن دحيم، عن ابن أبي فديك، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد فذكره‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع، حدثنا سفيان بن عاصم بن أبي النجود، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال‏:‏

قلت‏:‏ يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عليه، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض وما عليه خطيئة‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عاصم بن أبي النجود‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وتقدم في الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد وأمهاتنا شتى‏)‏‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أن شرائعهم وإن اختلفت في الفروع، ونسخ بعضها بعضاً حتى انتهى الجميع إلى ما شرع الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 185‏)‏

إلا أن كل نبي بعثه الله فإنما دينه الإسلام، وهو التوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏‏.‏

فأولاد العلات أن يكون الأب واحداً والأمهات متفرقات، فالأب بمنزلة الدين وهو التوحيد، والأمهات بمنزلة الشرائع في اختلاف أحكامها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 148‏]‏ على أحد القولين في تفسيرها‏.‏

والمقصود أن الشرائع وإن تنوعت في أوقاتها، إلا أن الجميع آمرة بعبادة الله وحده لا شريك له، وهو دين الإسلام الذي شرعه الله لجميع الأنبياء، وهو الدين الذي لا يقبل الله غيره يوم القيامة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 130- 132‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏، فدين الإسلام هو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو الإخلاص له وحده دون ما سواه، والإحسان أن يكون على الوجه المشروع في ذلك الوقت المأمور به، ولهذا لا يقبل الله من أحد عملاً بعد أن بعث محمداً صلى الله عليه وسلم على ما شرعه له‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 158‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏بعثت إلى الأحمر والأسود‏)‏‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ أراد العرب والعجم، وقيل‏:‏ الإنس والجن‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم‏)‏‏)‏‏.‏

والأحاديث في هذا كثيرة جداً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 185‏)‏

والمقصود أن إخوة العلات أن يكونوا من أب واحد وأمهاتهم شتى، مأخوذ من شرب العلل بعد النهل‏.‏ وأما إخوة الأخياف فعكس هذا؛ أن تكون أمهم واحدة من آباء شتى‏.‏ وإخوة الأعيان فهم الأشقاء من أب واحد وأم واحدة، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

وفي الحديث الآخر‏:‏

‏(‏‏(‏نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة‏)‏‏)‏‏.‏ وهذا من خصائص الأنبياء أنهم لا يورثون، وما ذاك إلا لأن الدنيا أحقر عندهم من أن تكون مخلفة عنهم، ولأن توكلهم على الله عز وجل في ذراريهم أعظم، وأشد، وآكد من أن يحتاجوا معه إلى أن يتركوا لورثتهم من بعدهم ما لا يستأثرون به عن الناس، بل يكون جميع ما تركوه صدقة لفقراء الناس، ومحاويجهم، وذو خلتهم‏.‏

وسنذكر جميع ما يختص بالأنبياء عليهم السلام، مع خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، في أول كتاب النكاح من كتاب الأحكام الكبير، حيث ذكره الأئمة من المصنفين اقتداء بالإمام أبي عبد الله الشافعي رحمة الله عليه وعليهم أجمعين‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن أن عبد رب الكعبة قال‏:‏ انتهيت إلى عبد الله بن عمرو وهو جالس في ظل الكعبة، فسمعته يقول‏:‏ بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر إذ نزل منزلاً فمنا من يضرب خباءه، ومنا من هو في جشرة، ومنا من ينتضل، إذ نادى مناديه‏:‏ الصلاة جامعة، قال‏:‏ فاجتمعنا، قال‏:‏ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبنا فقال‏:‏

‏(‏‏(‏إنه لم يكن نبي قبلي إلا دل أمته على خير ما يعلمه لهم، وحذرهم ما يعلمه شراً لهم، وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها، وإن آخرها سيصيبها بلاء شديد، وأمور ينكرونها، تجيء فتن يريق بعضها بعضا، تجيء الفتنة فيقول المؤمن‏:‏ هذه مهلكتي، ثم تنكشف، ثم تجيء الفتنة فيقول المؤمن‏:‏ هذه، ثم تنكشف، فمن سره منكم أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه موتته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأدخلت رأسي من بين الناس، فقلت‏:‏ أنشدك بالله أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ فأشار بيده إلى أذنيه، وقال‏:‏ سمعته أذناي، ووعاه قلبي، قال‏:‏ فقلت‏:‏ هذا ابن عمك - يعني معاوية - يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، وأن نقتل أنفسنا، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فجمع يديه، فوضعهما على جبهته، ثم نكس هنيهة، ثم رفع رأسه فقال‏:‏ أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله‏.‏ ورواه أحمد أيضاً عن وكيع عن الأعمش به، وقال فيه‏:‏ ‏{‏أيها الناس إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيراً لهم، وينذره ما يعلمه شراً لهم‏}‏ وذكر تمامه بنحوه‏.‏

وهكذا رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من طرق عن الأعمش به‏.‏

ورواه مسلم أيضاً من حديث الشعبي، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 187‏)‏

آخر الجزء الثامن من خط المصنف رحمه الله تعالى، يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب أخبار العرب، وكان الفراغ من تتمة هذا المجلد في سابع عشر شوال، سنة سهر ربيعة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، بدمشق المحروسة‏.‏

على يد أفقر عباد الله، وأحوجهم إلى رحمته، وعفوه، وغفرانه، ولطفه، وكرمه إسماعيل الدرعي الشافعي الأنصاري غفر الله تعالى له، وختم له بخير، ولأحبابه، ولإخوانه، ولمشايخه، ولجميع المسلمين، والصلاة والسلام على محمد خير خلقه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين‏.‏

 ذكر أخبار العرب

قيل‏:‏ إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام والتحية والإكرام، والصحيح المشهور أن العرب العاربة قبل إسماعيل، وقد قدمنا أن العرب العاربة منهم‏:‏ عاد، وثمود، وطسم، وجديس، وأميم، وجرهم، والعماليق، وأمم آخرون لا يعلمهم إلا الله كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام وفي زمانه أيضاً‏.‏

فأما العرب المستعربة‏:‏ وهم عرب الحجاز فمن ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وأما عرب اليمن‏:‏ وهم حمير، فالمشهور أنهم من قحطان، واسمه‏:‏ مهزم، قاله ابن ماكولا‏.‏

وذكروا أنهم كانوا أربعة إخوة‏:‏ قحطان، وقاحط، ومقحط، وفالغ، وقحطان بن هود، وقيل‏:‏ هو هود، وقيل‏:‏ هود أخوه، وقيل‏:‏ من ذريته، وقيل‏:‏ إن قحطان من سلالة إسماعيل، حكاه ابن إسحاق، وغيره‏.‏ فقال بعضهم‏:‏ هو قحطان بن الهميسع بن تيمن بن قيذر بنت ابن إسماعيل، وقيل‏:‏ غير ذلك في نسبه إلى إسماعيل، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 188‏)‏

وقد ترجم البخاري في صحيحه على ذلك، فقال‏:‏ باب نسبة اليمن إلى إسماعيل عليه السلام‏:‏

حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن يزيد بن أبي عبيد، حدثنا سلمة رضي الله عنه قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضلون بالسيوف، فقال‏:‏

‏(‏‏(‏ارموا بني إسماعيل، وأنا مع بني فلان‏)‏‏)‏ لأحد الفريقين‏.‏ فأمسكوا بأيدهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما لكم‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ وكيف نرمي وأنت مع بني فلان‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ارموا وأنا معكم كلكم‏)‏‏)‏‏.‏

انفرد به البخاري، وفي بعض ألفاظه‏:‏ ‏(‏‏(‏ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع ابن الأدرع‏)‏‏)‏‏.‏ فأمسك القوم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ارموا وأنا معكم كلكم‏)‏‏)‏‏.‏

قال البخاري وأسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة، يعني وخزاعة فرقة ممن كان تمزق من قبائل سبأ حين أرسل الله عليهم سيل العرم، كما سيأتي بيانه، وكانت الأوس والخزرج منهم، وقد قال لهم عليه الصلاة والسلام‏:‏

‏(‏‏(‏ارموا بني إسماعيل‏)‏‏)‏ فدل على أنهم من سلالته، وتأوله آخرون على أن المراد بذلك جنس العرب، لكنه تأويل بعيد إذ هو خلاف الظاهر بلا دليل‏.‏

لكن الجمهور على أن العرب القحطانية من عرب اليمن وغيرهم، ليسوا من سلالة إسماعيل، وعندهم أن جميع العرب ينقسمون إلى قسمين‏:‏ قحطانية، وعدنانية؛ فالقحطانية‏:‏ شعبان سبأ وحضرموت، والعدنانية‏:‏ شعبان أيضاً ربيعة ومضر، ابنا نزار بن معد بن عدنان، والشعب الخامس وهم‏:‏ قضاعة مختلف فيهم‏.‏ فقيل‏:‏ إنهم عدنانيون‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 189‏)‏

قال ابن عبد البر وعليه الأكثرون، ويروى هذا عن ابن عباس، وابن عمر، وجبير بن مطعم، وهو اختيار الزبير بن بكار، وعمه مصعب الزبيري، وابن هشام، وقد ورد في حديث قضاعة بن معد، ولكنه لا يصح، قاله ابن عبد البر وغيره، ويقال‏:‏ إنهم لن يزالوا في جاهليتهم، وصدر من الإسلام، ينتسبون إلى عدنان، فلما كان في زمن خالد بن يزيد بن معاوية، وكانوا أخواله انتسبوا إلى قحطان، فقال في ذلك أعشى بن ثعلبة في قصيدة له‏:‏

أبلغ قضاعة في القرطاس إنهم * لولا خلائف آل الله ما عتقوا

قالت قضاعة إنا من ذوي يمن * والله يعلم ما بروا وما صدقوا

قد ادعوا والداً ما نال أمهم * قد يعلمون ولكن ذلك الفرق

وقد ذكر أبو عمرو السهيلي أيضاً من شعر العرب ما فيه إبداع في تفسير قضاعة في انتسابهم إلى اليمن، والله أعلم‏.‏

والقول الثاني أنهم من قحطان، وهو قول ابن إسحاق، والكلبي، وطائفة من أهل النسب، قال ابن إسحاق وهو قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان‏.‏ وقد قال بعض شعرائهم وهو عمرو بن مرة صحابي له حديثان‏:‏

يا أيها الداعي ادعنا وأبشر * وكن قضاعياً ولا تنزر

نحن بنو الشيخ الهجان الأزهر * قضاعة بن مالك بن حمير

النسب المعروف غير المنكر * في الحجر المنقوش تحت المنبر

قال بعض أهل النسب‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 190‏)‏

هو قضاعة بن مالك بن عمر بن مرة بن زيد بن حمير، وقال ابن لهيعة عن معروف بن سويد، عن أبي عشابة محمد بن موسى عن عقبة بن عامر قال‏:‏ قلت يا رسول الله أما نحن من معد‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ فمن نحن‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنتم قضاعة بن مالك بن حمير‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو عمر بن عبد البر، ولا يختلفون أن جهينة بن زيد بن أسود بن أسلم بن عمران بن إلحاف بن قضاعة قبيلة عقبة بن عامر الجهني، فعلى هذا قضاعة في اليمن في حمير بن سبأ‏.‏

وقد جمع بعضهم بين هذين القولين بما ذكره الزبير بن بكار وغيره، من أن قضاعة امرأة من جرهم، تزوجها مالك بن حمير، فولدت له قضاعة، ثم خلف عليها معد بن عدنان وابنها صغير، وزعم بعضهم أنه كان حملاً فنسب إلى زوج أمه، كما كانت عادة كثير منهم ينسبون الرجل إلى زوج أمه، والله أعلم‏.‏

وقال محمد بن سلام البصري النسابة‏:‏ العرب ثلاثة جراثيم‏:‏ العدنانية، والقحطانية، وقضاعة‏.‏

قيل له‏:‏ فأيهما أكثر العدنانية أو القحطانية‏؟‏

فقال‏:‏ ما شاءت قضاعة أن تيامنت؛ فالقحطانية أكثر، وإن تعددت، فالعدنانية أكثر‏.‏ وهذا يدل على أنهم يتلومون في نسبهم، فإن صح حديث ابن لهيعة المقدم، فهو دليل على أنهم من القحطانية، والله أعلم‏.‏

وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏‏.‏

قال علماء النسب‏:‏ يقال شعوب، ثم قبائل، ثم عمائر، ثم بطون، ثم أفخاذ، ثم فصائل، ثم عشائر‏.‏ والعشيرة أقرب الناس إلى الرجل، وليس بعدها شيء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 191‏)‏

ولنبدأ أولاً بذكر القحطانية، ثم نذكر بعدهم عرب الحجاز، وهم العدنانية، وما كان من أمر الجاهلية ليكون ذلك متصلاً بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن شاء الله تعالى وبه الثقة‏.‏

وقال البخاري باب ذكر قحطان‏:‏ حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، قال‏:‏ حدثنا سليمان بن بلال، عن ثور بن زيد، عن أبي المغيث، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه‏)‏‏)‏‏.‏

وكذا رواه مسلم عن قتيبة، عن الدراوردي، عن ثور بن زيد به‏.‏

قال السهيلي‏:‏ وقحطان أول من قيل له أبيت اللعن، وأول من قيل له أنعم صباحاً‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو المغيرة، عن جرير، حدثني راشد بن سعد المقراي، عن أبي حي، عن ذي فجر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏كان هذا الأمر في حمير، فنزعه الله منهم، فجعله في قريش‏)‏‏)‏ ‏(‏وس ى ع و د ا ل ى هـ م‏)‏ قال عبد الله‏:‏ كان هذا في كتاب أبي، وحيث حدثنا به تكلم به على الاستواء، يعني‏:‏ وسيعود إليهم‏.‏

 قصة سبأ

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 15-19‏]‏‏.‏

قال علماء النسب منهم محمد بن إسحاق‏:‏ اسم سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان، قالوا‏:‏ وكان أول من سبى من العرب فسمى سبأ لذلك‏.‏ وكان يقال له‏:‏ الرائش، لأنه كان يعطي الناس الأموال من متاعه‏.‏

قال السهيلي‏:‏ ويقال إنه أول من تتوج‏.‏

وذكر بعضهم أنه كان مسلماً، وكان له شعر بشر فيه بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك قوله‏:‏

سيملك بعدنا ملكاً عظيماً * نبي لا يرخص في الحرام

ويملك بعده منهم ملوك * يدينون العباد بغير ذام

‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 192‏)‏

ويملك بعدهم منا ما ملوك * يصير الملك فينا باقتسام

ويملك بعد قحطان نبي * تقي جبينه خير الأنام

يسمى أحمداً يا ليت أني * أعمر بعد مبعثه بعام

فأعضده وأحبوه بنصري * بكل مدجج وبكل رام

متى يظهر فكونوا ناصريه* ومن يلقاه يبلغه سلامي

حكاه ابن دحية في كتابه ‏(‏التنوير‏)‏ في مولد البشير النذير‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن دعلة، سمعت عبد الله بن العباس يقول‏:‏

إن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو‏:‏ أرجل أم امرأة أم أرض‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بل هو رجل، ولد عشرة فسكن اليمن منهم ستة، وبالشام منهم أربعة، فأما اليمانيون‏:‏ فمذحج، وكندة، والأزد، والأشعريون، وأنمار، وحمير، وأما الشامية‏:‏ فلخم، وجذام وعاملة، وغسان‏)‏‏)‏‏.‏

وقد ذكرنا في التفسير أن فروة بن مسيك الغطيفي، هو السائل عن ذلك، كما استقصينا طرق هذا الحديث وألفاظه هناك، ولله الحمد

والمقصود أن سبأ يجمع هذه القبائل كلها، وقد كان فيهم التبابعة بأرض اليمن، وأحدهم تُبَّع، وكان لملوكهم تيجان يلبسونها وقت الحكم، كما كانت الأكاسرة ملوك الفرس يفعلون ذلك‏.‏

وكانت العرب تسمي كل من ملك اليمن مع الشحر وحضرموت تُبَّعاً، كما يسمون من ملك الشام مع الجزيرة قيصر، ومن ملك الفرس كسرى، ومن ملك مصر فرعون، ومن ملك الحبشة النجاشي، ومن ملك الهند بطليموس‏.‏

وقد كان من جملة ملوك حمير بأرض اليمن بلقيس، وقد قدمنا قصتها مع سليمان عليه السلام، وقد كانوا في غبطة عظيمة، وأرزاق دارة، وثمار وزروع كثيرة، وكانوا مع ذلك على الاستقامة والسداد وطريق الرشاد، فلما بدلوا نعمة الله كفراً أحلوا قومهم دار البوار‏.‏

قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه‏:‏ أرسل الله إليهم ثلاثة عشر نبياً‏.‏ وزعم السدي أنه أرسل إليهم اثني عشر ألف نبي، فالله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 193‏)‏

والمقصود أنهم لما عدلوا عن الهدى إلى الضلال، وسجدوا للشمس من دون الله، وكان ذلك في زمان بلقيس وقبلها أيضاً، واستمر ذلك فيهم حتى أرسل الله عليهم سيل العرم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 16-17‏]‏‏.‏

ذكر غير واحد من علماء السلف والخلف من المفسرين وغيرهم، أن سد مأرب كان صنعته أن المياه تجري من بين جبلين، فعمدوا في قديم الزمان فسدوا ما بينهما ببناء محكم جداً، حتى ارتفع الماء فحكم على أعالي الجبلين، وغرسوا فيهما البساتين والأشجار المثمرة الأنيقة، وزرعوا الزروع الكثيرة‏.‏

ويقال‏:‏ كان أول من بناه سبأ بن يعرب، وسلط إليه سبعين وادياً يفد إليه، وجعل له ثلاثين فرضة يخرج منها الماء، ومات ولم يكمل بناؤه، فكملته حمير بعده، وكان اتساعه فرسخاً في فرسخ‏.‏

وكانوا في غبطة عظيمة، وعيش رغيد، وأيام طيبة، حتى ذكر قتادة وغيره أن المرأة كانت تمر بالمكتل على رأسها؛ فتمتلئ من الثمار ما يتساقط فيه من نضجه وكثرته‏.‏

وذكروا أنه لم يكن في بلادهم شيء من البراغيث، ولا الدواب المؤذية، لصحة هوائهم، وطيب فنائهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 3‏]‏‏.‏

فلما عبدوا غير الله، وبطروا نعمته، وسألوا بعد تقارب ما بين قراهم، وطيب ما بينها من البساتين، وأمن الطرقات، سألوا أن يباعد بين أسفارهم، وأن يكون سفرهم في مشاق وتعب، وطلبوا أن يبدلوا بالخير شراً، كما سأل بنو إسرائيل بدل المن والسلوى‏:‏ البقول، والقثاء، والفوم، والعدس، والبصل، فسلبوا تلك النعمة العظيمة، والحسنة العميمة، بتخريب البلاد، والشتات على وجوه العباد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ‏}‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 194‏)‏

قال غير واحد‏:‏ أرسل الله على أصل السد الفار، وهو الجرذ، ويقال‏:‏ الخلد، فلما فطنوا لذلك أرصدوا عندها السنانير، فلم تغن شيئاً، إذ قد حم القدر، ولم ينفع الحذر، كلا لا وزر، فلما تحكم في أصله الفساد، سقط وانهار، فسلك الماء القرار، فقطعت تلك الجداول والأنهار، وانقطعت تلك الثمار، ومادت تلك الزروع والأشجار، وتبدلوا بعدها برديء الأشجار والأثمار، كما قال العزيز الجبار‏:‏ ‏{‏وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ‏}‏‏.‏

قال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد‏:‏ هو الأراك، وثمره البرير، وأثل وهو‏:‏ الطرفاء، وقيل‏:‏ يشبهه، وهو حطب لا ثمر له ‏{‏وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ‏}‏ وذلك لأنه لما كان يثمر النبق، كان قليلاً مع أنه ذو شوك كثير، وثمره بالنسبة إليه كما يقال في المثل‏:‏ لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ‏}‏ أي‏:‏ إنما نعاقب هذه العقوبة الشديدة من كفر بنا، وكذب رسلنا، وخالف أمرنا، وانتهك محارمنا‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ‏}‏ وذلك أنهم لما هلكت أموالهم، وخربت بلادهم، احتاجوا أن يرتجلوا منها، وينتقلوا عنها، فتفرقوا في غور البلاد ونجدها، أيدي سبأ شَذَرَ مَذَرَ‏.‏

فنزلت طوائف منهم الحجاز، ومنهم خزاعة نزلوا ظاهر مكة، وكان من أمرهم ما سنذكره، ومنهم المدينة المنورة اليوم، فكانوا أول من سكنها‏.‏ ثم نزلت عندهم ثلاث قبائل من اليهود‏:‏ بنو قينقاع، وبنو قريظة، وبنو النضير، فخالفوا الأوس والخزرج، وأقاموا عندهم، وكان من أمرهم ما سنذكره‏.‏

ونزلت طائفة أخرى منهم الشام، وهم الذين تنصروا فيما بعد، وهم‏:‏ غسان، وعاملة، وبهراء، ولخم، وجذام، وتنوخ، وتغلب، وغيرهم، وسنذكرهم عند ذكر فتوح الشام في زمن الشيخين رضي الله عنهما‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني أبو عبيدة قال‏:‏ قال الأعشى بن قيس بن ثعلبة، وهو ميمون بن قيس‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 195‏)‏

وفي ذاك للمؤتسي أسوة * ومأرم عفي عليها العرم

رخام بنته لهم حمير * إذا جاء مواره لم يرم

فأروى الزرع وأعنانها * على سعة ماءهم إذ قسم

فصاروا أيادي لا يقدرو * ن على شرب طفل إذا ما فطم

وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السيرة، أن أول من خرج من اليمن قبل سيل العرم عمرو بن عامر اللخمي، ولخم هو ابن عدي بن الحارث بن مرة بن ازد بن زيد بن مهع بن عمرو بن عريب بن يشجب ابن زيد بن كهلان بن سبأ‏.‏ ويقال‏:‏ لخم بن عدي بن عمرو بن سبأ، قاله ابن هشام‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان سبب خروجه من اليمن فيما حدثني أبو زيد الأنصاري أنه رأى جرذاً يحفر في سد مأرب الذي كان يحبس عليهم الماء، فيصرفونه حيث شاؤوا من أرضهم، فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك، فاعتزم على النقلة عن اليمن، فكاد قومه، فأمر اصغر ولده إذا أغلظ عليه ولطمه، أن يقوم إليه فيلطمه، ففعل ابنه ما أمره به‏.‏

فقال عمرو‏:‏ لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي، وعرض أمواله، فقال أشراف من أشراف اليمن‏:‏ اغتنموا غضبة عمرو فاشتروا منه أمواله، وانتقل في ولده وولد ولده‏.‏

وقالت الأزد‏:‏ لا نتخلف عن عمرو بن عامر، فباعوا أموالهم وخرجوا معه، فساروا حتى نزلوا بلاد عك، مجتازين يرتادون البلدان، فحاربتهم عك، فكانت حربهم سجالاً، ففي ذلك قال عباس بن مرداس‏:‏

وعك بن عدنان الذين تلعبوا * بغسان حتى طردوا كل مطرد

قال‏:‏ فارتحلوا عنهم، فتفرقوا في البلاد، فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام، ونزل الأوس والخزرج يثرب، ونزلت خزاعة مراً، ونزلت أزد السراة السراة، ونزلت أزد عمان عمان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 196‏)‏

ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه، وفي ذلك أنزل الله هذه الآيات‏.‏ وقد روي عن السدي قريب من هذا‏.‏

وعن محمد بن إسحاق في روايته أن عمرو بن عامر كان كاهناً‏.‏ وقال غيره‏:‏ كانت امرأته طريفة بنت الخير الحميرية كاهنة، فأخبرت بقرب هلاك بلادهم، وكأنهم رأوا شاهد ذلك في الفأر الذي سلط على سدهم، ففعلوا ما فعلوا، والله أعلم‏.‏ وقد ذكرت قصته مطولة عن عكرمة، فيما رواه ابن أبي حاتم في التفسير‏.‏

 فصل إقامة ست قبائل من سبأ في اليمن‏.‏

وليس جميع سبأ خرجوا من اليمن لما أصيبوا بسيل العرم، بل أقام أكثرهم بها، وذهب أهل مأرب الذين كان لهم السد فتفرقوا في البلاد، وهو مقتضى الحديث المتقدم عن ابن عباس‏:‏ أن جميع قبائل سبأ لم يخرجوا من اليمن، بل إنما تشاءم منهم أربعة، وبقي باليمن ستة‏:‏ وهم مذحج، وكندة، وأنمار، والأشعريون، وأنمار هو‏:‏ أبو خثعم، وبجيلة، وحمير‏.‏

فهؤلاء ست قبائل من سبأ أقاموا باليمن، واستمر فيهم الملك والتبايعة حتى، سلبهم ذلك ملك الحبشة بالجيش الذي بعثه صحبة أميريه‏:‏ أبرهة، وأرياط نحواً من سبعين سنة‏.‏

ثم استرجعه سيف ابن ذي يزن الحميري، وكان ذلك قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقليل، كما سنذكره مفصلاً قريباً إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان‏.‏

ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن علياً وخالد بن الوليد، ثم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل، وكانوا يدعون إلى الله تعالى، ويبينون لهم الحجج، ثم تغلب على اليمن الأسود العنسي، وأخرج نواب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فلما قُتل الأسود، استقرت اليد الإسلامية عليها في أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كما سنبين ذلك بعد البعثة إن شاء الله تعالى‏.‏

 قصة ربيعة بن نصر بن أبي حارثة بن عمرو بن عامر

المتقدم ذكره اللخمي، كذا ذكره ابن إسحاق، وقال السهيلي‏:‏ ونساب اليمن تقول نصر بن ربيعة ابن نصر بن الحارث بن نمارة بن لخم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 197‏)‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ ربيعة بن نصر بن مالك بن شعوذ بن مالك بن عجم بن عمرو بن نمارة بن لخم، ولخم‏:‏ أخو جذام، وسمي لخماً لأنه لخم أخاه، أي‏:‏ لطمه، فعضه الآخر في يده فجذمها، فسمي جذاماً‏.‏

وكان ربيعة أحد ملوك حمير التبابعة، وخبره مع شق وسطيح الكاهنين، وإنذارهما بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

أما سطيح‏:‏ فاسمه ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن غسان‏.‏

وأما شق‏:‏ فهو ابن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن قيس بن عبقر بن أنمار بن نزار، ومنهم من يقول‏:‏ أنمار بن أراش بن لحيان بن عمرو بن الغوث بن نابت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ‏.‏

ويقال‏:‏ إن سطيحاً كان لا أعضاء له، وإنما كان مثل السطيحة، ووجهه في صدره، وكان إذا غضب انتفخ وجلس‏.‏ وكان شق نصف إنسان‏.‏ ويقال‏:‏ إن خالد بن عبد الله بن القسري كان سلالته‏.‏

وذكر السهيلي أنهما وُلدا في يوم واحد، وكان ذلك يوم ماتت طريفة بنت الخير الحميرية‏.‏ ويقال‏:‏ إنها تفلت في فم كل منهما، فورث الكهانة عنها، وهي امرأة عمرو بن عامر المتقدم ذكره، والله أعلم‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ وكان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة، فرأى رؤيا هائلة هالته، وفظع بها، فلم يدع كاهناً ولا ساحراً ولا عائفاً ولا منجماً من أهل مملكته، إلا جمعه إليه، فقال لهم‏:‏ إني قد رأيت رؤيا هالتني، وفظعت بها، فأخبروني بها وبتأويلها، فقالوا‏:‏ اقصصها علينا نخبرك بتأويلها‏.‏

فقال‏:‏ إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم بتأويلها، لأنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها‏.‏ فقال له رجل منهم‏:‏ فإن كان الملك يريد هذا، فليبعث إلى شق وسطيح، فإنه ليس أحد أعلم منهما، فهما يخبرانه بما سأل عنه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 198‏)‏

فبعث إليهما فقدم إليه سطيح قبل شق، فقال له‏:‏ إني قد رأيت رؤيا هالتني، وفظعت بها، فأخبرني بها، فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها‏.‏

فقال‏:‏ أفعل‏.‏

رأيت حُمَمَة خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض تهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة‏.‏

فقال له الملك‏:‏ ما أخطأت منها شيئاً يا سطيح، فما عندك في تأويلها‏؟‏

قال‏:‏ أحلف بما بين الحرتين من حنش، لتهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش‏.‏

فقال له الملك‏:‏ يا سطيح إن هذا لنا لغائط موجع، فمتى هو كائن‏:‏ أفي زماني أم بعده‏؟‏

فقال‏:‏ لا وأبيك، بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين‏.‏

قال‏:‏ أفيدوم ذلك من سلطانهم أم ينقطع‏؟‏

قال‏:‏ بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين، ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين‏.‏

قال‏:‏ ومن بلى ذلك من قتلهم وإخراجهم‏؟‏

قال‏:‏ يليهم أرم بن ذي يزن يخرج عليهم من عدن، فلا يترك منهم أحداً باليمن‏.‏

قال‏:‏ أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع‏؟‏

قال‏:‏ بل ينقطع‏.‏

قال‏:‏ ومن يقطعه‏؟‏

قال‏:‏ نبي زكي، يأتيه الوحي من قِبَلِ العلي‏.‏

قال‏:‏ وممن هذا النبي‏؟‏

قال‏:‏ رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر‏.‏

قال‏:‏ وهل للدهر من آخر‏؟‏

قال‏:‏ نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون‏.‏

قال‏:‏ أحق ما تخبرني‏.‏

قال‏:‏ نعم، والشفق والغسق والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق‏.‏

قال‏:‏ ثم قدم عليه شق، فقال له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح، لينظر أيتفقان أم يختلفان‏.‏ قال‏:‏ نعم رأيت حممة، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة‏.‏

فلما قال له ذلك عرف أنهما قد اتفقا، وأن قولهما واحد، إلا أن سطيحاً قال‏:‏ وقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة‏.‏ وقال شق‏:‏ وقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة‏.‏ فقال له الملك‏:‏ ما أخطأت يا شق منها شيئاً، فما عندك في تأويلها‏؟‏

فقال‏:‏ أحلف بما بين الحرتين من إنسان لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران‏.‏

فقال له الملك‏:‏ وأبيك يا شق إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده‏؟‏

قال‏:‏ لا بل بعده بزمان‏.‏ ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان، ويذيقهم أشد الهوان‏.‏

قال‏:‏ ومن هذا العظيم الشأن‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 199‏)‏

قال‏:‏ غلام ليس بدني ولا مدن، يخرج عليهم من بيت ذي يزن فلا يترك منهم أحداً باليمن‏.‏

قال‏:‏ أفيدوم سلطانه أم ينقطع‏؟‏

قال‏:‏ بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل من أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل‏.‏

قال‏:‏ وما يوم الفصل‏؟‏

قال‏:‏ يوم يجزى فيه الولات، يدعى فيه من السماء بدعوات تسمع منها الأحياء والأموات، ويجمع الناس فيه للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات‏.‏

قال‏:‏ أحق ما تقول‏؟‏

قال‏:‏ أي ورب السماء والأرض وما بينهما من رفع وخفض، إن ما أنبأتك به لحق ما فيه أمض‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فوقع في نفس ربيعة بن نصر ما قالا، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له‏:‏ سابور بن خرزاذ، فأسكنهم الحيرة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فمن بقية ولد ربيعة بن نصر النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر، يعني‏:‏ الذي كان نائباً على الحيرة لملوك الأكاسرة، وكانت العرب تفد إليه وتمتدحه، وهذا الذي قاله محمد بن إسحاق من أن النعمان بن المنذر من سلالة ربيعة بن نصر قاله أكثر الناس‏.‏

وقد روى ابن إسحاق أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما جيء بسيف النعمان بن المنذر سأل جبير بن مطعم عنه ممن كان‏؟‏ فقال‏:‏ من أشلاء قنص بن معد بن عدنان‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ فالله أعلم أي ذلك كان‏.‏

 قصة تبع أبي كرب مع أهل المدينة ‏(‏وكيف أراد غزو البيت الحرام ثم شرفه وعظمه وكساه الحلل فكان أول من كساه‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما هلك ربيعة بن نصر، رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد أبي كرب، وتبان أسعد تبع الآخر ابن كلكيركب بن زيد، وزيد بن تبع الأول بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرائش بن عدي بن صيفي بن سبأ الأصغر بن كعب كهف الظلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير ابن أنس بن الهميسع بن العربحج والعربحج، هو حميبر بن سبأ الأكبر بن يعرب بن يشجب بن قحطان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 200‏)‏

قال عبد الملك بن هشام‏:‏ سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وتبان أسعد أبو كرب، هو الذي قدم المدينة، وساق الحبرين من اليهود إلى اليمن، وعمَّر البيت الحرام وكساه، وكان ملكه قبل ملك ربيعة بن نصر‏.‏

وكان قد جعل طريقه حين رجع من غزوة بلاد المشرق على المدينة، وكان قد مر بها في بدأته فلم يهج أهلها، وخلَّف بين أظهرهم ابناً له، فقتل غيلة فقدمها وهو مجمع لإخرابها واستئصال أهلها وقطع نخلها‏.‏

فجمع له هذا الحي من الأنصار ورئيسهم عمرو بن طلحة أخو بني النجار، ثم أحد بني عمرو بن مبذول، واسم مبذول‏:‏ عامر بن مالك بن النجار، واسم النجار‏:‏ تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر‏.‏

وقال ابن هشام‏:‏ عمرو بن طلحة هو عمرو بن معاوية بن عمرو بن عامر بن مالك بن النجار، وطلة أمه، وهي بنت عامر بن زريق الخزرجية‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد كان رجل من بني عدي بن النجار يقال له‏:‏ أحمر، عدا على رجل من أصحاب تبع وجده يجد عذقاً له فضربه بمنجلة فقتله‏.‏ وقال إنما التمر لمن أبره فزاد ذلك تبعاً حنقاً عليهم‏.‏ فاقتتلوا‏:‏ فتزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل فيعجبه ذلك منهم، ويقول‏:‏ والله إن قومنا لكهام‏.‏

وحكى ابن إسحاق عن الأنصار‏:‏ أن تبعاً إنما كان حنقه على اليهود، أنهم منعوهم منه‏.‏

قال السهيلي‏:‏ ويقال إنه إنما جاء لنصرة الأنصار أبناء عمه، على اليهود الذين نزلوا عندهم في المدينة على شروط فلم يفوا بها، واستطالوا عليهم، والله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فبينا تبع على ذلك من قتالهم، إذ جاءه حبران من أحبار اليهود من بني قريظة‏:‏ عالمان راسخان، حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالوا له‏:‏ أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك جل العقوبة‏.‏

فقال لهما‏:‏ ولم ذلك‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 201‏)‏

قالا‏:‏ هي مهاجر نبي، يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره، فتناهى عن ذلك، ورأى أن لهما علماً، وأعجبه ما سمع منهما، فانصرف عن المدينة، وأتبعهما على دينهما‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها، فتوجه إلى مكة، وهي طريقه إلى اليمن، حتى إذا كان بين عسفان وامج، أتاه نفر من هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن بزار بن معد بن عدنان‏.‏ فقالوا له‏:‏ أيها الملك ألا ندلك على بيت مال داثراً غفلته الملوك قبلك، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة، قال‏:‏ بلى‏.‏ قالوا‏:‏ بيت بمكة يعبده أهله، ويصلون عنده‏.‏

وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك، وبغى عنده‏.‏ فلما أجمع لما قالوا، أرسل إلى الحبرين فسألهما عن ذلك‏.‏ فقالا له‏:‏ ما أراد القوم إلا هلاكك، وهلاك جندك، ما نعلم بيتاً لله عز وجل، اتخذه في الأرض لنفسه غيره، ولئن فعلت ما دعوك إليه، لتهلكن وليهلكن من معك جميعاً‏.‏

قال‏:‏ فماذا تأمرانني أن أصنع إذا أنا قدمت عليه‏؟‏ قالا‏:‏ تصنع عنده ما يصنع أهله، تطوف به، وتعظمه وتكرمه، وتحلق رأسك عنده، وتذلل له، حتى تخرج من عنده‏.‏

قال‏:‏ فما يمنعكما أنتما من ذلك‏؟‏ قالا‏:‏ أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم عليه السلام، وإنه لكما أخبرناك، ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله، وبالدماء التي يهريقون عنده، وهم نجس أهل شرك - أو كما قالا له - فعرف نصحهما وصدق حديثهما، وقرب النفر من هذيل، فقطع أيديهم وأرجهلم‏.‏

ثم مضى حتى قدم مكة، فطاف بالبيت، ونحر عنده، وحلق رأسه، وأقام بمكة ستة أيام - فيما يذكرون - ينحر بها للناس، ويطعم أهلها، ويسقيهم العسل‏.‏

وأُري في المنام أن يكسوا البيت، فكساء الخصف، ثم أُري في المنام أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساء المعافر، ثم أُري أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساء الملاء والوصائل‏.‏

وكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت، وأوصى به ولاته من جرهم، وأمرهم بتطهيره، وأن لا يقربوه دماً، ولا ميتة، ولا مئلاتاً وهي المحايض، وجعل له باباً ومفتاحاً، ففي ذلك قالت سبيعة بنت الأحب، تذكر ابنها خالد بن عبد مناف بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وتنهاه عن البغي بمكة، وتذكر له ما كان من أمر تبع فيها‏:‏

أبني لا تظلم بمكة * لا الصغير ولا الكبير

واحفظ محارمها بني * ولا يغرنك الغرور

أبني من يظلم بمكة * يلق أطراف الشرور

أبني يضرب وجهه * ويلج بخديه السعير

أبني قد جربتها * فوجدت ظالمها يبور

الله آمنها وما * بنيت بعرصتها قصور

والله آمن طيرها * والعصم تامن في ثبير

ولقد غزاها تبع * فكسا بنيتها الحبير

وأذل ربي ملكه * فيها فأوفى بالنذور

يمشي إليها حافياً * بفنائها ألفا بعير

ويظل يطعم أهلها * لحم المهارى والجزور

يسقيهم العسل المصفى * والرحيض من الشعير

‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 203‏)‏

والفيل أهلك جيشه * يرمون فيها بالصخور

والملك في أقصى البلاد * وفي الأعاجم والخزور

فاسمع إذا حدثت وأفهم * كيف عاقبة الأمور

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم خرج تبع متوجهاً إلى اليمن، بمن معه من الجنود وبالحبرين، حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخلوا فيه، فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني أبو مالك بن ثعلبة بن أبي مالك القرظي، قال‏:‏ سمعت إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله يحدث‏:‏ أن تبعاً لما دنا من اليمن ليدخلها، حالت حمير بينه وبين ذلك، وقالوا‏:‏ لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه وقال‏:‏ إنه خير من دينكم‏.‏ قالوا‏:‏ تحاكمنا إلى النار‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ وكانت باليمن فيما يزعم أهل اليمن نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه، تأخذ الظالم ولا تضر المظلوم، فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها، حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه‏.‏

فخرجت النار إليهم، فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها، فزجرهم من حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر لها، فصبروا حتى غشيتهم، فأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير‏.‏

وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما، تعرق جباههما ولم تضرهما، فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما، فمن هنالك كان أصل اليهودية باليمن‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد حدثني محدث أن الحبرين، ومن خرج من حمير، إنما اتبعوا النار ليردوها، وقالوا‏:‏ من ردها فهو أولى بالحق، فدنا منها رجال حمير بأوثانهم ليردوها، فدنت منهم لتأكلهم فحادوا عنها ولم يستطيعوا ردها، فدنا منها الحبران بعد ذلك، وجعلا يتلوان التوراة وهي تنقص عنهما، حتى رداها إلى مخرجها الذي خرجت منه، فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما، والله أعلم أي ذلك كان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 204‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان رئام بيتاً لهم يعظمونه، وينحرون عنده، ويكلمون فيه إذ كانوا على شركهم، فقال الحبران لتبع‏:‏ إنما هو شيطان يفتنهم بذلك فخل بيننا وبينه، قال‏:‏ فشأنكما به، فاستخرجا منه فيما يزعم أهل اليمن كلباً أسود فذبحاه، ثم هدما ذلك البيت، فبقاياه اليوم كما ذكر لي بها آثار الدماء التي كانت تهراق عليه‏.‏

وقد ذكرنا في التفسير الحديث الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تسبوا تُبعاً فإنه قد كان أسلم‏)‏‏)‏‏.‏

قال السهيلي‏:‏ وروى معمر عن همام بن منبه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏لا تسبوا أسعد الحميري فإنه أول من كسى الكعبة‏)‏‏)‏‏.‏

قال السهيلي‏:‏ وقد قال تبع حين أخبره الحبران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شعراً‏:‏

شهدت على أحمد أنه * رسول من الله باري النسم

فلو مد عمري إلى عمره * لكنت وزيرا له وابن عم

وجاهدت بالسيف أعداءه * وفرجت عن صدره كل هم

قال‏:‏ ولم يزل هذا الشعر تتوارثه الأنصار، ويحفظونه بينهم، وكان عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه‏.‏

قال السهيلي‏:‏ وذكر ابن أبي الدنيا في كتب القبور أن قبراً حفر بصنعاء، فوجد فيه امرأتان معهما لوح من فضة مكتوب بالذهب وفيه‏:‏ هذا قبر لميس وحنى ابنتي تبع ماتتا، وهما تشهدان أن ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما‏.‏

ثم صار الملك فيما بعد إلى حسان بن تبان أسعد، وهو أخو اليمامة الزرقاء التي صلبت على باب مدينة جو، فسميت من يومئذ اليمامة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 205‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما ملك ابنه حسان بن أبي كرب تبان أسعد، سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض الأعاجم، حتى إذا كانوا ببعض أرض العراق كرهت حمير وقبائل اليمن السير معه، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهليهم، فكلموا أخاً له يقال له‏:‏ عمرو وكان معه في جيشه، فقالوا له‏:‏ أقتل أخاك حسان ونملكك علينا، وترجع بنا إلى بلادنا فأجابهم‏.‏

فاجتمعوا على ذلك إلا ذارعين الحميري، فإنه نهى عمراً عن ذلك فلم يقبل منه، فكتب ذو رعين رقعة فيها هذان البيتان‏:‏

ألا من يشتري سهراً بنوم * سعيد من يبيت قرير عين

فأما حمير غدرت وخانت * فمعذرة الإله لذي رعين

ثم استودعهما عمراً‏.‏ فلما قتل عمرو أخاه حسان ورجع إلى اليمن منع منه النوم وسلط عليه السهر، فسأل الأطباء والحذاق من الكهان والعرافين عما به، فقيل له‏:‏ إنه والله ما قتل رجل أخاه قط أو ذا رحم بغياً إلا ذهب نومه وسلط عليه السهر، فعند ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه‏.‏

فلما خلص إلى ذي رعين قال له‏:‏ إن لي عندك براءة، قال‏:‏ وما هي‏؟‏ قال‏:‏ الكتاب الذي دفعته إليك فأخرجه، فإذا فيه البيتان فتركه، ورأى أنه قد نصحه، وهلك عمرو فمرج أمر حمير عند ذلك وتفرقوا‏.‏